"عند نقطة معينة سنجد أنه يتعين عليك التوقف عن إنفاق النقود التي لا تملكها". هذه الكلمات المستمدة من مخزون الحكمة الأميركية جاءت على لسان"جب هنسارلنج" النائب "الجمهوري" من تكساس. والشيء المؤسف أنه بالنظر إلى ميزانياتنا الشخصية، وميزانية أنديتنا، ومؤسساتنا، ومشاريعنا التجارية، فإننا نعرف أن هذا القول صحيح تماماً. والحقيقة أنه قد يصعب إدراك مدى حدة أزمة الديون الأميركية، التي تشير كافة الدلائل أنها ستصل إلى 14.29 تريليون دولار في بحر أسابيع قليلة. الأسوأ من هذا، أن هناك اتفاقاً عاماً على أن أوباما قد أخفق في صياغة استراتيجية متماسكة، للتعامل مع الدين الوطني لأميركا، على الرغم من مرور عامين ونصف العام على انتخابه رئيساً. والحقيقة التي تتضح أمامنا الآن هي أن أميركا قد دخلت بالفعل في دور الأفول حيث أن المشكلات لا تقتصر على ما سبق بل تشمل مشكلات أخرى منها على سبيل المثال أن الرئيس ليس لديه حتى الآن خطة واضحة للتعامل مع أزمة المعاشات الضخمة، وأن أميركا تعاني من بطالة وصلت نسبتها إلى 10 في المئة تقريباً. على مدى العقد الأخير فقد ما يقرب من 5000 أميركي حياتهم، كما أصيب ما يقرب من 40 ألفاً آخرين في الحربين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. ويشار إلى أن الميزانية العسكرية الأميركية بلغت العام الماضي 700 مليار دولار، وهي ميزانية ضخمة لا يمكن الاستمرار فيها. لقد نجحت "البنتاجون" في تطوير التكنولوجيا العسكرية المطلوبة لقواتها، ولكن سهول أفغانستان الرملية، ومدنها وبلداتها المتربة الرثة، تبرز بوضوح حدود القوة لتلك التكنولوجيا. فالقنابل الموضوعة بجانب الجدران الطينية، وفي الأزقة الضيقة، يصعب باستمرار الكشف عنها كما أن الانتحاريين يمثلون كابوساً مزعجاً للقادة العسكريين. في حديثه أمام خريجي أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية في شهر ديسمبر الماضي، استشهد أوباما بما قاله الجنرال" أيزنهاور" ذات يوم عن تصميمه على عدم وضع أهداف للسياسة الخارجية الأميركية "تتجاوز قدرات أميركا ووسائلها" وكان الرئيس نفسه قد أشار في الآونة الأخيرة إلى معنى قريب عندما قال:"إن القيادة الأميركية لا تعني المضي قدما بمفردها في المهام المختلفة وتحمل العبء كله على عاقتها، وإنما تعني خلق الظروف والتحالفات التي تسمح للآخرين بالانضمام إليها". الرئيس على صواب، لا شك في ذلك. ولكن الحقيقة هي أن مشكلات أميركا أكثر صعوبة بكثير وأكثر تعقيداً من ذلك كله... وهو ما أجبرها على التراجع في الكثير من الجبهات، وسبب تشويشاً والتباساً لم يتم فهمه لا في الداخل ولا في الخارج. والرأي العام في أميركا عقب ما رآه في ولايتي جورج بوش، وبعد الدعاوى الصاخبة من قبل "المحافظين الجدد"، بات يظهر قدراً أقل من الدعم للمغامرات الأجنبية. فالأميركيون العاديون يسألون أنفسهم عن السبب أو الأسباب التي تجعلهم غير قادرين على التركيز على كسب المزيد من الدولارات، وإيجاد الحلول لمشكلاتهم الداخلية الكثيرة والمستعصية. وهم عندما يتساءلون عن ذلك ينظرون إلى ما تفعله الصين والهند، ويرون كيف ركزت الدولتان على تطوير اقتصاديهما، ولم يرسلا جنودهما إلى ميادين القتال بالخارج كي يموتوا. خلال حملته الانتخابية الرئاسية وصف أوباما الحرب الأميركية في العراق بالغباء، وهو ما وافقه عليه الكثيرون، ولكن المشكلة أن حربه في أفغانستان لا تبدو اليوم أفضل مما كانت عليه حرب العراق. فعلى الرغم من وجود بعض المكاسب على الأرض، إلا أن الصورة العامة مثيرة للاكتئاب بوجه عام، خصوصاً وأن عديدين ينظرون إلى حكومة كابول على أنها فاسدة ولا فائدة ترتجى منها. والربيع العربي الذي فاجأ العالم، والذي يتحول في الوقت الراهن إلى صيف ساخن، وضع الولايات المتحدة في وضع شديد الحرج. فالعديد من الدول العربية الموالية للغرب مثل مصر وتونس، لديها سجل ضعيف في ملف حقوق الإنسان، واهتمام ضئيل بالتحول لديمقراطيات حقيقية، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة لم ترغب في انتقادهما، وهالها احتمال سيطرة الإسلاميين على الفضاء السياسي فيهما. أما الموقف في ليبيا فقد صدرت بشأنه بيانات مختلفة ومترددة من واشنطن على مدى ثلاثة أسابيع قبل أن يتم الاتفاق على قرار مجلس الأمن رقم 1973 في السابع عشر من مارس دون اعتراض من قبل أي دولة. وفي الحقيقة إن الفضل ينسب إلى كل من هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية، وسوزان رايس سفيرة الولايات المتحدة في المنظمة الأممية، وسامنتا باور عضو مجلس الأمن القومي، في تحذير أوباما من أن بنغازي قد تتحول بالنسبة له إلى نموذج مماثل لسربرينيتشا وما جرى لها إبان إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، وذلك إذا لم يبادر باتخاذ إجراء ما بشأن فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا للحيلولة بين طائرات القذافي وقصف المدن الليبية التي تمردت عليه. بعد صدور القرار كانت الطائرات الأميركية هي الأكثر نشاطاً، قبل أن يتم سحبها لاحقاً، وإحلال طائرات لدول أخرى محلها، وإنْ كانت هناك أنباء بأن بعضها قد عاد للعمل في ليبيا مجدداً. على الرغم من ذلك، يدرك أوباما، جيداً أن بلاده المنهكة لا تستطيع أن تعمل في كل مكان في الوقت نفسه. وهو لذلك يرغب - وأنا اتفق معه - في رؤية دول حلف "الناتو" الأخرى وقد باتت أكثر انخراطاً في المهمة الليبية، وغيرها من المهام، حتى ولو كان ذلك من خلال المساهمة بقوات قليلة.(ويشار إلى أن 6 دول من دول الناتو الثماني والعشرين هي التي أرسلت طائرات إلى ليبيا لفرض منطقة حظر الطيران). ومن المؤكد أن واشنطن هي التي يجب أن تتحمل اللوم على عدم توضيحها - من قبل - للحدود الحالية المقيدة لقوتها. وليس أمامها في الوقت الراهن، نتيجة لتلك الحدود على القوة، سوى التركيز على تدمير"القاعدة" ومنع إيران من أن تصبح الدولة التالية في الشرق الأوسط التي تنشر أسلحة نووية. ذلك أن إدارة أمر الأفول ليس بالأمر الميسور بحال. سير سيريل تاونسند سياسي بريطاني من حزب "المحافظين"